منافع ما بعد الحج
خالد بن سعود الحليبي
وبعد أن انقضى موسم الحج، فلعل من الخير أن نتذاكر شيئًا من العبر التي نستفيد منها، حتى لا نكون موسميين، تنفصل في حياتنا مواسم الخير عن غيرها، فإنا منذ أن رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد، - صلى الله عليه وسلم -، رسولاً ونبيًّا، ونحن نقول: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأعراف: 162، 163)]. فموسم العبادة هو حياتنا كلُّها، بلا استثناء، والله - سبحانه وتعالى - يربينا بالحج، ويربينا بالصلاة، ويربينا بالدعاء، ويربينا بالافتقار إليه - عز وجل -. الحج تلك الرحلة الإيمانية التي تنطلق فيها أفئدة المؤمنين من قيود الأرض، وجواذب الماديات، إلى رحابة التسليم التام للخالق العظيم، والانقياد لأوامره دون تردد..
هذه الرحلة التي تعيش أمنية غالية تتلجلج في صدر كل فرد مسلم، مهما ابتعدت بقعته وشط مزاره.. حتى لتجد عينيك تهملان وأنت تستمع إلى إخوتك القادمين من الخارج، وهم يروون -عبر الأثير- قصص الشوق والهيام برؤية الكعبة المشرفة.. ومشاعرهم الفياضة التي لا يصفها غير تهدج الصوت، واختلاط الحروف، والعبرات المسكوبة الصادقة.. حين تقع عيونهم على بنائها المهيب..
من خلال حج هذا العام شهد حجاج بيت الله العظيم صور التنظيم الرائع الذي قام به رجالات هذا البلد وهم في كل لفتة من لفتات العين، ينظمون، وينشرون الوعي الأمني والشرعي، ويضحون بأعصابهم وراحتهم؛ من أجل راحة ضيوف الرحمن، وصحة حجهم، ويتعاملون بأخلاق رفيعة عالية.
وشاهد -كذلك- أهل الخير وهم يسهمون في تقديم الخدمات للحجاج بشتى صنوفها، عن طريق المبرات والجمعيات الخيرية التي تهدي الوجبات الصحية بمئات الآلاف في المشاعر، وتقدم المشروبات في وقت الحاجة إليها، بل تقدم الكتب والمطبوعات بالآلاف لرفع مستوى الوعي الشرعي. فجزى الله الجميع كل خير عن كل حجاج بيت الله.
لقد كان حج هذا العام منظمًا حقًا.. سادت فيه صور كثيرة من الإيثار والمحبة بين المسلمين، وازدادت فيه دلالات الفقه والعلم بالأحكام الشرعية، والحرص على الإفادة من الوقت كله في طاعة الله - تعالى -. وذلك تحقيق واقعي لأهم حِكَم الحج، وهي أنه يربطنا بقدوتنا العظمى محمد بن عبد الله، - صلى الله عليه وسلم -، الذي قال: ((خذوا عني مناسككم))، فالمسلم الذي راح يسأل ويتحرى أن يكون حجهُ كلُّه وفق الهدي النبوي الكريم، يرجو ألا يحيد عنه، رجاء قبوله، ينبغي له كذلك أن يتأسى به في كل حياته بعد ذلك، وأن يسأل كذلك عن كل ما يخص دقائق حياته ومعاملاته، فالله - تعالى -يقول في محكم التنزيل: «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» (الأعراف: 162، 163). إنها آية عظيمة تضع المسلم أمام حقيقة ربما غفل عنها في خضم الحياة، وهي أن حياة الإنسان كلَّها لله، بل ومماته يجب أن يكون وفق نهجه وهديه كما هو شأن صلاته وعبادته المحضة، يتقفى في ذلك كلِّه أثر الرسول الكريم، - صلى الله عليه وسلم -، فلا يستعير منهجًا لماله من جهة، ومنهجًا لأسرته من جهة ثانية، ومنهجًا لفكره من جهة ثالثة، ولا يدع لله إلا ركعات ربما لا يدري ماذا قال فيها، وصيامًا فقد حقيقته، وحجًا جهل أسراره، فعاشه بجسده ولم يعشه بقلبه، فإن «لا إله إلا الله» منهج متكامل للحياة كلها بلا استثناء.
يقول عمر أبو ريشة بعد قضاء حجه مصوِّرًا مَن يعيش دينه بظواهره لا بحِكَمه:
أسألُ النفس خاشعًا: أترى *** طهرت بردي من لوثة الأدران
كم صلاةٍ صليتُ لم يتجاوز *** قدس آياتها حدودَ لساني
كم صيام عانيتُ جوعي فيه *** ونسيت الجياع من إخواني
كم رجمت الشيطان والقلب مني *** مرهَقٌ في حبائل الشيطان
ربِّ، عفوًا، إن عشت ديني *** ألفاظًا عجافًا، ولم أعشه معاني
كما أن من أسرار الحج ومنافعه، تربية النفس على العفاف والأدب العالي، فإن الله - تعالى - يقول: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ)[البقرة: 197)].
فإن من أراد أن يعمل بهذه الآية، فعليه ألا يتدنى إلى الرفث، ولا يتدنس بالفسوق، ولا ينطق بالفحش، بل ولا يشغل نفسه بالجدل والنقاش الذي لا طائل وراءه، ولا ينظر نظرة مريبة، ومن يلزم نفسه بهذا كله في أيام الحج، فإن أثر ذلك سيبقى له بإذن الله بعده، ولو درسًا يتذكره كلما مالت به السّبل، أو اشتطت به الطريق.
ومن حِكم الحج، التي ينبغي أن تكون ماثلة في القلوب، فاعلة في الحياة، بعد الحج، أنه يعطي صورة رائعة للوحدة التي يجب على المسلمين أن يسعوا إلى تحقيقها، فها قد تجمعوا من كل فج عميق، أبيضهم وأسودهم، شرقيّهم وغربيّهم، عربيّهم وعجميّهم، غنيّهم وفقيرهم، لا تجمع بينهم سوى رابطة الدين وحب الله ورسوله، - صلى الله عليه وسلم -، يرتدون لباسًا واحدًا، ويهتفون هتافًا واحدًا، ويرجون ربًا واحدًا. قد ضحوا بأنفسهم فعرّضوها لمخاطر الأسفار، وضحوا بأموالهم فأنفقوها راضية بها نفوسُهم، وضحوا بأوقاتهم، فاقتطعوا منها أيامًا وربما شهورًا، وضحوا بقربهم من أهلهم وديارهم وأسواقهم، فتركوها في سبيل الله، وضحوا بجمالياتهم التي كانوا يحرصون عليها، فتجردوا من كل زينة؛ ليبقوا "أيامًا معدودات" بلباس الإحرام المتواضع، الذي لا مباهاة فيه بين رجل وآخر، ولا مدعاة فيه لعُجب أو رياء أو خيلاء، وتلك تربية للنفس على بذل كل شيء؛ من أجل إرضاء خالقها - تعالى -ومحبته، ليس في الحج وحده، بل في سائر أيام العمر. والتضحية هي الدرس البليغ في هذا الجانب، فعبادة دون تضحية لا يمكن أن تكون. ففي الحج مثلاً، إن كان من تسهيل وتيسير فلا بد من مشقة، بها يعظُم أجر الحاجّ، فالسفر قطعة من العذاب، تختل فيه جميع الممارسات اليومية التي كان الحاج يمارسها في دياره، فالمركب والمرقد والمأكل والمشرب والمجالس، كل ذلك قد تغير، وغالبًا هو مِن غير الذي تعوده هذا الحاج، والبعد عن الأهل والخلّان، والبلد والمصالح الدنيوية، فلا بد إذن، من الصبر والتحمّل. وهنا يحسن بالحاج أن يتعلم هذا الدرس جيدًا، فكم نحن في حاجة إليه؟، فالدنيا مجبولة على النقص، ضحك وبكاء، وتجمع وشتات، وشدة ورخاء، وسرّاء وضرّاء، دار غرور لمن اغتر بها، وهي عبرة لمن اعتبر بها، ولكن إذا استحكمت الأزمات، وترادفت الضوائق، فلا مخرج إلا بالإيمان بالله والتوكل عليه وحسن الصبر، ذلك النور العاصم من التخبط، والدرع الواقية من اليأس والقنوط: (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف: 87)].
فمَن مِن البشر من لم يذق طعم الألم؟ ومن منهم مَن سلم مِن ابتلاء أو غم؟ ومن منهم من اكتملت له حياته وتحققت كل أمانيه؟ ولذلك يحتاج المسلم إلى زاد وفير من الصبر والاحتساب، وهو يكابد هذه الحياة، وقد علّمنا الله هذا الخلق في نحو تسعين موضعًا في كتابه الكريم، منها ما يبشر الصابرين بالأجر على ما عملوا: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 96)].
إنه أجر غير محدود العد والحساب، كمثل أجر عدد من الطاعات الأخرى، بل: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: 10)].
وفي الحديث الصحيح: ((ما أُعطيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر)).
فالمؤمن الواثق لا يفقد صفاء العقيدة ونور الإيمان، إن هو فقد من صافيات الدنيا ما فقد، أما الإنسان الجزوع فإن له من سوء الطبع ما ينفّره من الصبر، ويجعله فاشلاً في كل امتحانات الابتلاءات التي تَعرض له.
إن أداء الحج يترك أثرًا عظيمًا في نفس المؤمن، فهو يعلّم المسلم النظام والصبر والتواضع والتسامح وحسن المعاشرة وطيب الملاطفة ومراقبة الله - عز وجل -. فما أروعها من دورة تدريبية تربوية وثقافية، تتولى فيها التدريب على قوة الإخلاص والخير والصفاء الكامنة في القلوب والضمائر..
ثم إن شعور المسلم بأنه ربما قبل حجه عند الله يجعله يحس بالطهارة القلبية، فيُحمّل نفسه مسئولية كبرى؛ بأن يجاهد نفسه ألا يعود إلى الذنوب مرة أخرى، حتى لا يلطخ هذا النقاء الذي ربما أكرمه الله به.
رأيت الذنوب تميت القلوب *** وقد يورث الذلَّ إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب *** وخير لنفسك عصيانهُا
لعل تلك بعض المنافع التي أشار إليها الله - تعالى - في كتابه العزيز: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ..)[الحج:27، 28)]